في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية المتفاقمة التي يعاني منها الشعب السوري منذ أكثر من عقد، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة النظر في الموارد البشرية السورية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم. فهذه الكفاءات، التي اكتسبت خبرات علمية ومهنية واسعة في بيئات متعددة، لم تعد مجرد طاقات مهاجرة، بل باتت تمثل رصيداً استراتيجياً يمكن أن يسهم بفعالية في مسارات إعادة الإعمار والتنمية المستدامة في سوريا.
في خضمّ التحديات السياسية والاقتصادية التي تعصف بسوريا منذ أكثر من عقد، تبرز قضية الكفاءات السورية المنتشرة حول العالم كأحد المحاور الاستراتيجية في أي حديث جاد عن مستقبل التنمية وإعادة الإعمار. فهذه الكفاءات التي اضطرت للبحث عن فرص خارج الوطن، لا تزال مرتبطة به وجدانيًا ومهنيًا، وتشكل اليوم موردًا بشريًا غنيًا يمكن أن يُحدث فارقًا ملموسًا إذا ما تم توظيفه بالشكل الصحيح.
وفي هذا السياق، تتناول هذه المقالة أهمية دعم الكفاءات السورية في الخارج، والطرق الممكنة لتعزيز دورها في نهضة سوريا الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب استعراض أبرز التحديات التي تواجهها، والفوائد التي يمكن أن تجنيها البلاد من هذا الاستثمار البشري الهائل.
الانتشار الواسع للكفاءات السورية في المنافي لم يعد مجرّد نتيجة للهجرة القسرية، بل أصبح عامل قوة كامنة يحمل إمكانيات هائلة للتأثير في عملية إعادة بناء الوطن. فالعديد من السوريين في الخارج برزوا في ميادين الطب، والهندسة، والعلوم، والتكنولوجيا، والفنون، وريادة الأعمال. هؤلاء يمكن أن يكونوا شركاء فعليين في التنمية إذا أُتيحت لهم آليات الدعم والتواصل المناسبة.
الكفاءات السورية المغتربة تمتلك المهارات والمعارف اللازمة لتطوير الاقتصاد السوري المنهك. وبإشراكهم في مشروعات استراتيجية داخل البلاد، يمكن دفع عجلة الإنتاج، وتحسين نوعية الخدمات، وإطلاق مبادرات اقتصادية ذات تأثير مباشر في حياة المواطنين.
عمل الكفاءات في بيئات متقدمة علميًا ومهنيًا منحهم أدوات وخبرات عالية القيمة. ومن خلال إشراكهم في برامج تدريبية، ومشاريع تعاون مشترك، يمكن نقل هذه المعارف إلى الداخل السوري، بما ينعكس على جودة التعليم، والتدريب المهني، وكفاءة الكوادر المحلية.
تعاني سوريا من نقص حاد في تخصصات نوعية مثل الذكاء الاصطناعي، والطب التخصصي، وهندسة البرمجيات. دعم الكفاءات السورية في هذه المجالات يمكن أن يردم هذه الفجوة، ويوفر للسوق السورية خبرات نادرة يصعب إيجاد بدائل محلية لها حاليًا.
دعم الكفاءات لا يعني بالضرورة تقديم مساعدات مالية، بل يستدعي بناء منظومة متكاملة تشمل استراتيجيات وطنية للتواصل والتمكين، وتوفير حوافز اقتصادية ومهنية. ومن بين أبرز آليات الدعم المقترحة:
من خلال إنشاء منصات إلكترونية متخصصة تربط الكفاءات السورية بالخارج بالمؤسسات والشركات داخل البلاد، يمكن تسهيل التوظيف، وتبادل الفرص، وتطوير الشراكات المهنية التي تخدم الطرفين.
إطلاق برامج تدريب تقني وتخصصي، سواء عبر الإنترنت أو بالتعاون مع الجامعات المحلية، يساهم في تعزيز المهارات ورفع جاهزية الكفاءات للانخراط في سوق العمل السوري بطريقة فعالة.
تقديم حوافز للمغتربين من أصحاب الخبرات لتأسيس مشروعاتهم داخل سوريا، من خلال تسهيلات قانونية، وتمويل ميسر، ودعم إداري، يسهم في خلق فرص عمل وتحريك عجلة الاقتصاد.
تيسير التعاون مع المنظمات الدولية والجامعات العالمية من خلال اتفاقيات تُعنى بتوفير فرص عمل أو تدريب للسوريين بالخارج، يسهم في تعزيز حضور سوريا ضمن الأطر العالمية للتنمية والتعليم.
رغم الإمكانات العالية التي تمتلكها الكفاءات السورية، إلا أنها تصطدم بعدة عقبات تحول دون اندماجها الكامل أو إسهامها الفاعل في عملية التنمية، من أبرزها:
يواجه العديد من السوريين صعوبات في معادلة مؤهلاتهم أو إثبات خبراتهم في بلدان المهجر، مما يقلص من فرصهم المهنية ويحد من قدراتهم على المساهمة الفعالة.
الابتعاد عن الوطن لفترات طويلة وما يرافقه من مشاعر فقدان الانتماء أو العزلة الثقافية قد يؤثر سلبًا على استقرارهم الشخصي، ويضعف الحافز للانخراط في الشأن العام السوري.
غالبًا ما تفتقر الكفاءات السورية في الخارج إلى قنوات رسمية أو آليات واضحة للتواصل مع المؤسسات السورية، مما يضعف إمكانية المشاركة في مشاريع محلية أو برامج تطويرية.
بفضل خبراتهم العملية والعلمية، يمكن للكفاءات المغتربة أن تقدم حلولًا مبتكرة وسريعة للتحديات التنموية في سوريا، وتسهم في إعادة بناء البنية التحتية والمؤسسات بكفاءة أكبر.
التعاون مع الكفاءات السورية في الخارج، خاصة من خلال مشاريع دولية أو تعليمية، يسهم في تحسين صورة سوريا على الصعيد العالمي ويُعيدها إلى خارطة التعاون الدولي في مجالات العلم والتنمية.
الاستثمار في الكفاءات السورية بالخارج لم يعد خيارًا ثانويًا، بل ضرورة وطنية واستراتيجية تنموية حيوية. فهؤلاء هم امتداد الوطن في العالم، وامتلاكهم لرؤية حديثة وأدوات معرفية متقدمة يتيح لهم أن يكونوا شركاء حقيقيين في صياغة مستقبل أكثر إشراقًا لسوريا.